في ذكرى وفاة الفهد

تحل هذه الأيام ذكرى وفاة الملك فهد -رحمه الله- تعالى في الأول من أغسطس 2005م، والأكيد أن مواطني هذا البلد المعطاء والباحثين والدارسين مكثوا أياماً طويلة منذ وفاته -رحمه الله- وهم يناقشون ويستذكرون في مجالسهم “عهد الملك فهد” وقراراته المتفاعلة مع المعطيات الداخلية والخارجية.

داخلياً لا يختلف أي متابع أو باحث لعهد (الفهد) أن الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- تعاطى بـ (روح القيادة) التي يمتلكها، لتحول بلاده المملكة العربية السعودية إلى دولة مدنية حديثة ودولة مؤسساتية، وظهر ذلك جلياً في الكيانات السياسية والإدارية والاقتصادية وفي مقدمتها: المجلس الأعلى الاقتصادي مروراً بإنشاء هيئة الاستثمار وهيئة السياحة.

الأمر المهم في هذا الجانب أيضاً أن الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- حينها و في تبنّيه تلك الكيانات قدّم دليلاً على (روح القيادة) والمتمثل في الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في إنشاء كيانات هدفها التخطيط السليم واتباع السياسات الملائمة، فالنجاحات التي حققتها دول مثل كوريا وسنغافورة كان وراءها ليس مجلس واحد فقط بل هيئات عدة، فهناك ما عني بشؤون التصنيع وآخر بالتصدير والسياحة وغيرهما، وكأنه -رحمه الله تعالى- كان يقول: لا حرج أن نستفيد من تجارب الآخرين.

صانع القرار

ثمة اتفاق كبير على أن الملك فهد وهو يقدم تلك المبادرات لبلاده كان يملك الإرادة السياسية بوصفه ملك البلاد حينها لتكون العنصر الأساسي لكل ما حدث من تغيير، لكن على الطرف الآخر فإنه من المؤكد أن الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وهو صانع القرار حينها أصر بشدة على أن يكون للمملكة العربية السعودية “نموذج خاص” بها ينطلق من ثوابت تتواءم مع المنهج الرباني وظروفه وبيئته وموروثه وتقاليده.

أقول مرة أخرى .. أنه لا جدال على أن جزءاً كبيراً مما تحصده المملكة العربية السعودية اليوم على الصعيد الداخلي، هو نتاج خبرة ثرية ومتراكمة للملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- في القيادة، وكانت لها مؤشرات ومقدمات كبيرة خلال الأعوام الماضية عبر سلسلة من قرارات وتنظيمات أدخلت بلاده في قائمة الدول ذات التركيبة المؤسساتية الحديثة، بدءاً بخطوة وصفت حينها بأنها (جريئة وواثقة) في العام 1993م بإصداره الأنظمة الثلاثة وهي: الحكم، والشورى، والمناطق، فأصبح للحكم في المملكة العربية السعودية نظام أساسي ونظاميّ شورى ومناطق، وكلها انتقلت بالمملكة إلى مصاف المجتمعات المدنية التي تتوثق فيها العلاقة بين الجغرافيا والتنمية.

بعيداً عن التنظير والتحليلات فإن الخطاب التاريخي الذي قدم به الملك فهد بن عبدالعزيز صدور الأنظمة الثلاثة السابقة والذي نقل عنه قوله فيه: “في التاريخ الحديث تأسست الدولة السعودية الأولى منذ أكثر من قرنين ونصف القرن على ظهور الإسلام على منهج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع، وهذا المنهج هو الإسلام عقيدة وشريعة” يعطي دلالة على أن عهد الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وما صاحبه من تغيرات عصرية ما هو في النهاية إلا امتداد طبيعي لمنهج واضح وإن اختلفت طرق الإدارة والتعامل.

يجد المتتبع لظروف عهد الفهد كمّاً من النماذج الداخلية التي لا حصر لها، ليس فقط في كيفية التفاعل معها بل تطويعها واستثمارها، فنفط الثمانينات وطفرته من مدخول تجاوز 600 بليون دولار يعتبر حينها فلكي، حيث لم يشأ الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله تعالى- أن يجعله يمر مثل سحابة مطر فحرص -رحمه الله- على استثماره في بنى تحتية ضخمة وسبع خطط تنموية ركزت على توسعة القاعدة الإنتاجية وتوسيع مصادر الدخل ورفع أداء القطاع الخاص ليتمكن أخيراً من قيادة دفة الاقتصاد.

ونتيجة لذلك كله نجح الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- بسياسته التنموية و روح القيادة في أن تتخطى المملكة العربية السعودية مصاعب وأعباء حربي الخليج الأولى والثانية، والخروج ببلاده بأقل الخسائر من دائرة شح السيولة وضغوط التضخم اللذين خيما وألقيا بظلالهما في تلك الحقبة.

توسعة الحرمين الشريفين في عهد الملك فهد

ولم يشأ الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- أن يدع تلك المداخيل الضخمة لبلاده من دون أن يستقطع منه الكثير لمصلحة أقدس البقاع للمسلمين التي تضمها بلاده، فكانت التوسعة الكبرى للحرمين الشريفين وخصص لها ما يزيد على 200 بليون ريال لتكون هي التوسعة التي أسست للتوسعات اللاحقة واستكملت في عهد أخاه الملك عبدالله -رحمه الله- وعهد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله تعالى- .

التنمية في عهد الملك فهد

إن تجربة النموذج السعودي في التنمية في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- تبدو فريدة من نوعها، ففي غضون ثلاثة عقود من الزمن تحولت المملكة العربية السعودية إلى مجتمع حديث يتمتع بأعلى مستويات الرفاهية، وخلال تلك الفترة انصبت جهود التنمية على بناء وإنشاء البنية الأساسية والمرافق ووضع الهياكل والأطر التنظيمية للمجتمع والاقتصاد، واستثمرت إيرادات النفط في برامج إنشائية ضخمة جعلت من السعودية ورشة عمل نادراً ما يشهد العالم مثلها.

في مقاييس التنمية كانت التجربة صعبة وتمثل تحدياً للملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- لكنها كانت الدافع الأساس وراء تبني استراتيجية التنويع الاقتصادي وترشيد الإنفاق وتطوير بنية اقتصادية أكثر تنافسية وكفاءة وقدرة. وليس من قبيل المبالغة الإشارة إلى أن مستقبل التنمية ونتاجها على الأمد البعيد يعتمد على مدى توافر الموارد البشرية المدربة وذات المهارات العالية التي تفي باحتياجات الاقتصاد في مراحله المختلفة.

العالم الخارجي

خارجياً تضمن عهد الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- نماذج نجحت في تكريس سياسة المملكة العربية السعودية، لتكون عنصراً فعالاً في المجتمع الدولي وسط أحداث أقل ما توصف بأنها “بالغة الحساسية” إذ كان الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله تعالى- شاهد عيان على محطات تاريخية عدة على المسرح الدولي.

ولم يشأ الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- أيضاً أن تمر هذه الأحداث من دون أن يغرس موضع قدم لبلاده فيها كدولة تحظى باحترام على الصعيدين الدولي والإقليمي، وتمثل ذلك في استراتيجية واضحة في سياستها الخارجية مستندة في ذلك إلى ثوابت دينية وأخلاقيات واضحة في كيفية تعاطيها مع القضايا العربية و في مقدمها قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي وحرب تحرير الكويت، فضلاً عن الشؤون والتطورات الإقليمية والدولية وصولاً إلى خدمة الإسلام والمسلمين في جميع بقاع العالم ونشر الدعوة ليكون ثمار ذلك كله موقع مؤثر للملكة العربية السعودية في خارطة العالم ويحظى باحترام جميع الدول.

ولم يكن ليأتي هذا الموقع المؤثر والاحترام الذي تحظى به الرياض من فراغ بل هو ثمار سياسة حكيمة ومسؤولة وضع دعائمها المؤسس الملك عبدالعزيز وتمسك بها أبناؤه الملوك رحمهم الله جميعاً من بعده، وعمل الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- على تكريسها كممارسة يومية في سياسة المملكة العربية السعودية وتعاطيها مع القضايا الإسلامية والعربية والشؤون والتطورات الإقليمية.