تعليم الملك فهد في مدرسة القصر

عندما بلغ الفتى السادسة من عمره وشب عن الطوق ألحقه والده في أول مراحل تعليم الملك فهد بمدرسة القصر، وهي عبارة عن غرفة واسعة الأرجاء يدعم سقفها ثلاثة أعمدة وتقع غرف منافعها خارجها، وكانت في الطابق العلوي إلى جوار مكاتب الملك عبدالعزيز، وهي غير المدرسة القديمة التي أسست في نهاية قصر الديرة من الغرب بجوار مخازن القصر، وتقع في الدور الأرضي من القصر، والتي أنشئت حين أنشىء قصر الديرة عام 1328هـ الموافق 1910م ، وقد درس بها الجيل الأول من أبناء الملك عبدالعزيز، الأمير محمد والملك خالد والأمير سعد والأمير ناصر والأمير عبدالله ، وعدد من الأمراء من الأسرة المالكة وبعض الأتباع.

كان يقوم بالتدريس في تلك المدرسة المغفور لهم بإذن الله محمد بن عقيف، وعبدالرحمن ابن عقيف وناصر بن حمدان، وهم من حفظة القرآن الكريم ومن طلبة العلم الشريف. وهذه المدرسة غير مدرسة الأمراء الأخيرة التي أنشأها الملك عبدالعزيز لأنجاله، وأحضر لها عدداً من المدرسين المجيدين بإدارة أحمد العربي وصالح خزامي، وأخيراً إدارة عبدالله خياط، وأحمد علي الكاظمي، وحامد الحابس.

أما المدرسة التي نشير إليها فهي مدرسة وسط بين الأولى والأخيرة وكان يقوم بالتدريس فيها أستاذ يتقن فنون التدريس والخط وتعليم الفنون الشائعة آنذاك، وهو المرحوم« محمد الحساوي» وهو من أهل الرياض، وكان يطلق عليه لقب«الحساوي» لكثرة زياراته وأسفاره للإحساء وبلدان الخليج، إلى جانب مدرسي المدرسة الأولى : محمد بن عقيف وعبدالرحمن ابن عقيف.

لازم الفتى الملك الدراسة في هذه المدرسة مكملا رحلة تعليم الملك فهد ومعه بعض إخوته ممن يكبره سناً، وبعضهم أصغر منه، ومنهم الأمير ناصر بن عبدالعزيز والأمير منصور بن عبدالعزيز، والأمير سعد بن عبدالعزيز، والأمير عبدالله بن عبدالعزيز، والأمير بندر بن عبدالعزيز، والأمير مساعد بن عبدالعزيز، والأمير مشعل بن عبدالعزيز، والأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز، والأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير فيصل بن تركي، وبعض أبناء أصدقاء الملك عبدالعزيز والملتحقين بالقصر أمثال الشيخ عبدالله بن نافع بن فضلية، والشيخ محمد بن فضلية، والعم راشد بن رويشد، والشيخ عبدالعزيز بن شلهوب، والشيخ سليمان بن حمد السليمان.

وكان يقوم بتدريس المواد الرياضية والخط وبعض الفنون الأخرى الأستاذ المغفور له إن شاء الله الشيخ محمد بن عبدالله العماني الملقب ب«السناري» وهو أستاذ كبير في شؤون التربية والتعليم، ويتقن العديد من الفنون المعرفية استمر هذا الأستاذ يعطي الدروس في المدرسة فترة طويلة، وكان الفتى الملك من بعض تلامذته، ورغم شدته وقسوته فإن خادم الحرمين الشريفين عندما يتذكره يثني عليه ويعترف بفضله الكبير عليه لإتقانه بعض العلوم.

وكان الشيخ السناري أول من أدخل في تلك المدرسة طريقة تعليم الكسور في الرياضيات، وهي طريقة تختلف عن الطرق الحديثة في الكسور الاعتيادية والعشرية، حيث كانت تلك الطريقة تضع مصطلحاً خاصاً لأرقام النصف والربع والثلث والعشر..الخ وذلك قبل تطور علم الرياضيات في بلادنا، وكانت الطريقة شائعة في الحجاز وفي بلدان الخليج بعامة، وقد هجرت تلك الطريقة في عهدنا الحاضر.

ويظهر أن الشيخ السناري لم يستمر في تلك المدرسة وأعطاه الملك عبدالعزيز إذناً بفتح مدرسة خاصة في مدينة الرياض، فكان أن أسس مدرسة السناري المشهورة في «دخنة» مع الشيخ المرحوم ناصر بن عبدالله بن مفيريج وذلك في حدود عام 1354هـ الموافق 1935م . إلا أن هذه المدرسة خارج تاريخ تعليم الملك فهد.

تعليم الملك فهد في مدرسة الأمراء الجديدة

ومنذ ذلك الحين تغير وضع مدرسة الأمراء بالرياض حيث أمر الملك عبدالعزيز عام 1354هـ الموافق 1935م بتنظيم مدرسة الأمراء في الرياض، وعهد بالقيام بأمرها إلى الأستاذين أحمد العربي، وحامد الحابس، وفي عام 1356هـ الموافق 1937م أسندت إدارة تلك المدرسة إلى الشيخ المرحوم عبدالله خياط فاختار معه عدداً من الأساتذة منهم الأستاذ أحمد علي الكاظمي، والأستاذ صالح خزامي، وقد استقبلهم الملك عبدالعزيز بنفسه عند افتتاح المدرسة بنظامها الجديد، وتحدث معهم بصراحة عما يريده لتعليم أبنائه، وأنه يريد قبل كل شيء الاهتمام بالقرآن الكريم والكتابة وبعد ذلك بقية الدروس، ثم أوضح لهم جلالته كيف يحسن أن يكون سيرهم مع الأمراء وأن يبدءوا معهم باللين والحسنى، وألا يتشددوا ويشددوا عليهم في أول الأمر فينفروا من التعليم.

وكان موقع المدرسة الجديد في الدور الثاني من قصر الديرة قريباً من الشعبة السياسية فهي عبارة عن عدد من الغرف ومنافعها.

وكان الملك فهد الطالب في تلك المدرسة هو الابن التاسع للملك عبدالعزيز من بين أبنائه الذكور البالغ عددهم ستة وثلاثين ذكراً.

وكان الملك عبدالعزيز يزور أبناءه في تلك المدرسة، وقد لاحظ تقدم هذا الشاب في دراسته، وأعجب بذكائه وإدراكه ورغبته في الحصول على المزيد من العلم والمعرفة. وفي إحدى المرات لزيارات جلالته لتلك المدرسة ألقى على جلالته الفتى الملك ارتجالاً مجموعة من الأمثال والحكم والمقطوعات الأدبية شعراً ونثراً فسأله الوالد من أين أخذت هذه المختارات التي ألقيتها حفظاً؟

فأجابه الفتى بصدق: أخذتها من كتاب«دروس التهذيب» وهي مادة كانت تدرس في المدارس الابتدائية آنذاك قبل أن يستغنى عنها بمادة المطالعة، فسر الملك عبدالعزيز لجوابه، وشكر مدرسيه على عنايتهم.

المعهد السعودي العلمي

بعد ذلك انتقل الفتى الملك إلى المعهد السعودي العلمي وهو معهد أنشأه الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة عام 1344هـ الموافق 1925م على إثر ضم الملك عبدالعزيز الحجاز إلى بقية أجزاء المملكة، وكان الغرض من إنشائه سد احتياج المدارس الابتدائية من المعلمين والمؤهلين، فهو أول مؤسسة تعليمية سعودية خرّجت عدداً من الأفراد الذين لعبوا دوراً جيداً في تطور التعليم في المملكة فيما بعد، وقد أعلن عن افتتاح هذا المعهد في الجريدة الرسمية عام 1345هـ الموافق 1926م وكان هذا المعهد يشتمل على أقسام ليلية للموظفين الذين لا تسمح ظروف عملهم بمواصلة دروسهم نهاراً، وكان منهج هذا المعهد يشتمل على دراسة القرآن الكريم والتجويد ودروس العقيدة والإملاء والحساب والقراءة والمحادثة والإنشاء وقواعد اللغة العربية والخطابة ومسك الدفاتر والجغرافيا والأخلاق، وسنن الكائنات «أي العلوم» وغير ذلك.

فكان من الطبيعي أن يضم عبدالعزيز أبناءه إلى مجلسه الخاص في مثل تلك المناسبة ، وهناك حاول الشاب إرواء نهمه إلى المعرفة حيث كان مجلس والده يضم نخبة من رجال العلم من فقهاء وعلماء وأدباء من مواطنين وغيرهم. فكان مهمة الفتى الملك في تلك الجلسات هي الإصغاء بعناية إلى ما يتحدث عنه جلالة والده، وكان دوماً في مستوى المهمات والأحداث، وقد التحق بالمعهد السعودي العلمي في مكة، وأعجب والده بخطواته الأولى التي قطعها كما سر من ثناء أساتذته وإشادتهم بذكائه وشغفه الشديد بالعلم، وحب الاستطلاع، واستيعاب التعليم الديني، واهتمامه بدروسه مما كان له الأثر العظيم في مستقبل أيامه.

تعليم الملك فهد مع والده – المدرسة الكبرى

وكان الشاب الملك ملازماً لمجالس والده حريصاً على أن يطلع مباشرة على طرق والده في إدارة الحكم وتناول شؤون الناس والأساليب الحكيمة التي يتبعها ذلك القائد في تسوية الخلافات ومعالجة مشكلات مواطنيه، مما أكسبه خبرة عظيمة فيما بعد في معالجة شؤون الحياة.

وقد انعكست هذه التربية العلمية على حياته حيث كان يتعامل مع أبنائه وهم الأمير المرحوم فيصل وبه يكنى، ومحمد، وسعود، وسلطان، وخالد، وعبدالعزيز بعطف وود وإخلاص، كما كان ـ رحمه الله ـ محباً لعائلته الكبرى التي تشمل مواطنيه فهو الأخ لكبيرهم والأب لصغيرهم فالجميع يتطلع إليه كقائد وأب عطوف، ومصدر خير وراع للمحبة والإخلاص والألفة.

كان من أثر دروسه العلمية التي تلقاها عن والده إغداقه على أبنائه حبه العميق وتعاطفه المليء بالحكمة، ومثالية السلوك، وكان يذكر أبناءه دائماً بأنهم لم يعانوا الظروف التي عاشها، وأن عليهم أن يكونوا مستعدين لمواجهة مصاعب الحياة وأن يتعودوا ولا يستسلموا.

كان يقول لهم بصريح العبارة: أنتم أحرار في تحديد مستقبلكم، لكني أذكركم بأن الصالحين والأقوياء من الناس هم الذين يعرفون كيف يخططون لمستقبلهم، وليكن معلوم لديكم أنها لا تتحقق الأهداف ما لم تدعموها بالعلم والمعرفة والخبرة والخلق القويم، وفوق كل هذا بالإيمان بالله وكتبه ورسله.

وقد عزز الفتى الملك تعليمه وثقافته بمختلف العلوم وبالرحلات العديدة إلى الخارج وحبه لعلم التاريخ، وعلم تاريخ العرب وتقاليد أسرته، وقبل ذلك تفهمه لتعاليم الدين الحنيف وفضائله، وبدأ ذلك واضحاً كما يقول من عرفه في استفساراته المستمرة من والده ومن كبار معاوني والده، فكان الفتى النابغة يحضر مجلس والده ويتعلم خفايا الحياة.

كان ذلك الشاب محباً للقراءة والمعرفة وملماً منذ طفولته بدقائق الحياة السياسية ليس في المملكة فقط بل في العالم العربي والإسلامي والدولي، وذلك من خلال حضوره لقاءات والده مع ضيوفه العرب والمسلمين والأجانب، وقد تميز بين أقرانه برغبة شديد في خوض تجارب الحياة العلمية في سن مبكرة.

وقد تتوجت مسيرة تعلم الملك فهد بتعيينه وزير المعارف في تاريخ 1954م