رحل الفهد وبقية هديته «للعروس» نافورة جدة تعانق السماء تباهيا وعلوا، تعلو بين أكوام السحب بكبريائها، وتفخر أمام سحب السماء باسم «الفهد»، ومثلما يكرم العرب ضيوفهم ي المبخرة، ظلت «مبخرة الفهد» مفخرة على مر الأجيال. يستذكرون بعلوها مكانة بلادهم، ويعطرون وطنهم «وفاء» كما تعطر نسمات مائها المتساقط أعماق البحر الأحمر .
نافورة الملك فهد أو نافورة جدة كانت ولا زالت تهيم عشقا في سماءات عروس البحر الأحمر، عبق عطرها يعانق الثريا مجداً لثلاثة عقود، فيما ارتفاعها الأعلى في موسوعة «غينيس” كرقم قياسي يصل إلى ۳۱۲ مترا، في وقت تجاور فيه طيفها البصري حدود القارة الآسيوية ليشاهد من مرتفعات افريقيا ومن جبال السودان تحديدا كم روم ساكنيها.
هذه التحفة المعمارية تعمل على ضخ مياه البحر بسرعة ۲۳۳ ميل في الساعة إلى ارتفاع ١٠٢٤ قدم ويصل وزن المياه في كل لحظة من لحطانها إلى ١٨ طنا ومحاطة بـ ٥٠٠كشاف عال الإضاءة مصممة لتحمل السقوط المستمر لألاف الأطنان من الماء.
كتب سامح محروس في صحيفة الجمهورية مقال نافورة جدة.. ونصر أكتوبر
فى قلب مدينة جدة السعودية يقف ملايين الزوار سنويا مبهورين بـ “نافورة جدة” وألوانها البديعة التى تظهر وتتألق مع حركة المياه وتدفقها، وقد لا يعرف الكثيرون أن لهذه النافورة قيمة كبيرة حيث تجسد تاريخًا يوضح مدى ما جمع بين مصر والسعودية من محبة وتضامن تجلى فى أبهى صوره فى نصر السادس من أكتوبر 1973 الذى كان للسعودية نصيب كبير فى تحقيقه من خلال مشاركتها فى صنعه سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسياً.
وقد شاهدت مؤخرا فيلمًا وثائقيًا قصيرًا يكشف الكثير من المعلومات عن تاريخ “نافورة جدة”.. يقول الفيلم: وراء حرب أكتوبر فى عام 1973 تفاصيل كثيرة لم يسلط الضوء عليها كثيرًا، فقد كان للمملكة العربية السعودية دوراً محورياً فى انتصار مصر على العدوان الإسرائيلى.
بعد احتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء فى مصر .. والجولان فى سوريا قرر الجيش الإسرائيلى إنشاء مانع كبير بساتر ترابى لمنع عبور الجيش المصرى للوصول للضفة الأخرى من قناة السويس، وجهزته ليكون قادرًا على تصدى أى طلق نارى وضم 22 موقعًا دفاعيًا، و26 نقطة حصينة، وزرعت حوله حقول ألغام وأسلاك شائكة، وكان يتراوح ارتفاعه ما بين 20 إلى 22 مترًا وتم إنفاق قرابة 400 مليون دولار عليه، وأصبح أقوى خط دفاعى عرفه التاريخ، أُطلق عليه اسم “خط بارليف” نسبة إلى الذى اقترحه رئيس الأركان الإسرائيلى حاييم بارليف، اشتد الخناق على الحكومة المصرية وقررت أن تطلب العون من الملك فيصل رحمه الله، ولم يكن رد الملك فيصل مخيبًا، بل جاء مرحبًا وعونًا لنصرة الأشقاء العرب كما كان يردد دائمًا.
اشترت السعودية لمصر مضخات مياه عالية القوة كمضخات زراعية حتى لا تكشف الخطط العسكرية المصرية ولإبعاد الشبهة عنها من قبل الإسرائيليين، وتم شحنها إلى جدة قبل تسليمها إلى المصريين، وبالفعل تم استخدام مضخات المياه فى اختراق خط بارليف وتم نسفه وهدمه فى 6 ساعات، وتم تسهيل عبور الجنود للقناة وبذلك تحقق الانتصار العظيم، وكان للسعودية دور كبير فى الانتصار بحرب أكتوبر 1973. وفى عام 1980 أمر الملك فهد – رحمه الله – بإنشاء “نافورة جدة” لتكون بمثابة هدية لسكان مدينة جدة وزوارها، وهى تعمل بأحد الـ7 مضخات التى أُستخدمت فى إسقاط “خط بارليف”.
لم تكن “نافورة جدة” من أبرز المعالم السياحية فحسب، بل أصبحت شاهدة على أحداث انتصار الأمة العربية ونصرة الأشقاء العرب.
ومن جانبى أعود إلى كتاب موسوعى قيم عنوانه: “العلاقات السعودية المصرية .. عراقى الماضى – إشراقة المستقبل” أصدره الباحث السعودى إبراهيم المسلم عام 1989 عن مكتبة مدبولى، حيث يحفل الكتاب بتاريخ مُشرف يستحق أن يُدرس للأجيال لتعرف قيمة وقوة ومتانة ورسوخ العلاقة التى تجمع بين الشعبين المصرى والسعودى، حيث يرصد الكتاب مسيرة مشرفة من التاريخ الوطنى للملك عبد العزيز آل سعود، وأولاده الملوك ومحبتهم الجارفة الحقيقية لمصر ودفاعهم عنها فى مختلف المواقف التى سيسطرها التاريخ بأحرف من نور للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
وأتوقف أمام معلومة تاريخية فى منتهى الأهمية بالصفحة رقم 85 حيث قام الرئيس أنور السادات بزيارة السعودية فى أغسطس 1972 وقابل الملك فيصل، ودارت بينهما مباحثات هامة أدرك منها الملك فيصل أن الاتحاد السوفييتى يماطل فى تزويد مصر بالسلاح، وقرر السادات أن يُسافر إلى الاتحاد السوفييتى فى شهر فبراير 1973، وبعد بضع ساعات من وصوله موسكو تلقى رسالة عاجلة من الملك فيصل يقول فيها: إنه وضع عشرين قاذفة مقاتلة من طراز “لايتننج” البريطانية الصنع تحت تصرف القيادة المصرية.
هذه الرسالة كانت قرارًا سياسيًا خطيرًا من الملك فيصل أراد به أن يعزز موقف الرئيس السادات فى مباحثاته مع القادة السوفييت. ربما كانت هذه المبادرة من الملك فيصل هى ما ساعد على التأثير على السوفييت لأنهم وافقوا على تزويد القوات الجوية المصرية بالقاذفة “تى – يو 22” وكانوا فى الماضى يرفضون تزويدها بها.
ونتيجة لهذه القرارات السياسية الخطيرة التى قام بها الرئيس السادات والملك فيصل تم عقد اتفاقية جديدة مع الاتحاد السوفييتى بتوريد أسلحة جديدة لمصر، وفى مقدمتها ثلاثة أنواع من الأسلحة لم سيبق لمصر الحصول عليها، وهى سرب من طائرات “ميج 23” وصواريخ “تى 17 آر” وصواريخ “سام 6” وعدد من المدافع والصواريخ المضادة للدبابات والعربات المدرعة.
محبة الملك فيصل
لقد أراد السادات – رحمه الله – أن يُظهر عرفانه وتقديره لمواقف الملك فيصل، فطلب إلى وزير الحربية المصرى أن يبعث برسالة إلى سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران أن يبلغه فيها أن الرئيس السادات أمره فى حالة حدوث أى طارئ للسادات أثناء الحرب أن تتلقى القيادة العسكرية المصرية أوامرها من الملك فيصل، وكان لهذه الرسالة التى وزعها الأمير سلطان على أفراد القوات المسلحة السعودية أثرها العميق لدى الشعب السعودى وقواته المسلحة.
وبدأت حرب السادس من أكتوبر 1973 – العاشر من رمضان 1393 هجرية وكان النصر من عند الله، وبذلك سجل المقاتل العربى أروع البطولات. اختلطت دماء المقاتل المصرى مع المقاتل العربى على رمال سيناء تروى ملحمة البطولة والفداء.
كان موقف الملك فيصل والمملكة العربية السعودية حكومة وشعبًا من المعركة مشرفًا، وعندما تقدم الرئيس نيكسون إلى الكونجرس يطلب الموافقة على تقديم مساعدات لإسرائيل فى حدود ألفى ومائتى مليون دولار، جاء الرد على هذا الموقف سريعًا، حين قرر الملك فيصل إعلان حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة وهولندا، كما أعلن أن السعودية من جانبها سوف تخفض إنتاجها بنسبة 10% كل شهر تجاوزًا للنسبة التى قررها وزراء البترول العرب وهى 5%.. جاء هذا القرار حافزًا للدول العربية المنتجة للبترول على اتخاذ نفس الموقف الذى وقفته السعودية وكان قرار حظر البترول خطيرًا.
الملك فيصل يزور الجبهة
قام الملك فيصل رحمه الله بزيارة إلى مصر فى الأول من أغسطس سنة 1974 بدعوة من الرئيس السادات، وقد اُستقبل استقبالًا رسميًا وشعبيًا لم يُشهد له مثيل، وقد زار جبهة القتال على الضفة الشرقية لقناة السويس، وأمضى على الجبهة أكثر من ثلاث ساعات.
وفور وصوله إلى الضفة الشرقية، خاطبه السادات قائلاً: “لقد عبرنا قناة السويس على أقدامنا بعد أن وعدت فصدقت وتعهدت فأوفيت فلكم منى ومن الشعب المصرى ومن القوات المسلحة ومن الأمة العربية كل شكر وتقدير وعرفان. راجيًا من الله أن يديم عليكم الصحة حتى تتم المعركة”
– رد الملك فيصل قائلاً: ” إنه لمن دواعى سرورى أننا وصلنا إلى هذه الغاية، عبرنا قناة السويس بعد أن مضى وقت لم يكن يجرؤ أى عربى على ذلك، وهذا من فضل الله ثم بفضل توجيهاتكم وعملكم المشكور”
– وفى حوار مع الطيارين الذين سيطروا على سماء المعركة قدمهم الفريق محمد حسنى مبارك إلى الملك فيصل .. هنأهم على بطولتهم وقال: “لقد تابعت أخباركم وأخبار بطولاتكم.. الله معكم دائمًا” .. وفى إحدى نقاط خط بارليف القوية روى اللواء أحمد بدوى أحد قادة حرب أكتوبر كيفية الاستيلاء على هذه النقطة الحصينة، وقدم إليه النقيب عبد الرحيم محمد أحد الضباط الذين اقتحموا هذه النقطة.. صافحه الملك بحرارة، وقال: “أحسنت .. لقد حصن العدو نفسه، ولكن الله أيد أخواننا الجنود المصريين ومكنهم من اختراق هذه الحصون ومكنهم من النصر، وهذا يتوجب الشكر لله”
– قال اللواء أحمد بدوى للملك: ” لقد جرى هذا الانتصار بفضل القرار الحكيم الشجاع الذى أصدره القائد أنور السادات.
– فقال الملك فيصل: لاشك أن قرار الرئيس السادات كان هو الطريق إلى النصر.
– قال السادات: هذا النصر يرجع إلى الحكمة والمساندة وروعة المعركة التى أدارها الملك فيصل.
– رد الملك فيصل بقوله: “هذا لا فضل لنا فيه.. الله وحده هو الذى مكننا من ذلك، ونرجو أن يمكننا من استكمال هذا الواجب.. إنه مما لا شك فيه أن واجب كل عربى مسلم أن يقف بجانب فخامتكم وبجانب إخواننا فى هذا البلد العربى للدفاع عن أمتنا ووطننا ولرد الاعتداءات التى ارتكبها أعداؤنا مؤكدين وقوفنا إلى جانبكم فى هذا السبيل وليس لنا أى فضل بل يرجع الفضل إلى الله سبحانه وتعالى الذى وفقنا لأداء هذا الواجب”.
شهادة مهمة
وانتقل إلى شهادة أخرى فى منتهى الأهمية تكشف وتؤكد أن مصر والسعودية هما “رمانة الميزان” وأساس الاستقرار العالمى وليس فى الشرق الأوسط فقط، وصاحب هذه الشهادة هو السيد محمود رياض وزير الخارجية المصرى الأسبق، حيث كتب يقول فى مذكراته: “بعد لقائى بالرئيس هوارى بومدين قابلت الملك فيصل، وبالرغم من معرفتى المُسبقة بأن للملك فيصل رأيًا ثابتًا فى الاتحاد السوفييتى الذى يراه الملك دولة مُلحدة مما يدفعه إلى عدم الثقة فى أهدافها، إلا أننى أيضًا كنت أثق تمامًا بالبصيرة السياسية للملك فيصل ومعرفته بأن السلاح السوفييتى هو المصدر الوحيد لقواتنا المسلحة، فركزت فى حديثى أن المعركة مازالت قائمة، وأنه فى حالة رفض إسرائيل الانسحاب من الأراضى العربية فلا مفر من استئناف القتال، وهذا الأمر يحتاج إلى تحسين العلاقات العربية مع الاتحاد السوفييتى، وأكدت للملك فيصل أن الرئيس السادات يشعر بامتنان عميق لدور المملكة العربية السعودية فى المعركة وفى الحظر البترولى. وقد خرجت من لقائى بالملك فيصل بوضوح كامل بأن الملك فيصل على استعداد تام لأن يضع كافة الامكانات السعودية فى المعركة، وأن استخدام البترول فى المعركة مرتبط تمامًا بالحقوق العربية الكاملة”
وفى ختام المؤتمر (حيث كان يُعقد بالجزائر وقتها اجتماع القمة العربى يوم 26 نوفمبر 1973) – والكلام للسيد محمود رياض – قال لى الرئيس هوارى بومدين:” إن الملك فيصل أخبرنى برغبته فى شراء مائة دبابة على وجه السرعة وتقديمها إلى مصر وسوريا، وأنه سوف يكلف الأمير سلطان وزير الدفاع بشراء الدبابات.
وقال الرئيس هوارى بومدين إنه شعر باطمئنان كبير من تمسك الملك فيصل بموقفه بالنسبة لاستمرار الحظر البترولى ورفضه الحاج هنرى كيسنجر وكان من رأيه أن تصل نسبة انخفاض البترول إلى 25% بحلول شهر أبريل حتى يشعر العالم بجدية موقف العرب.
ما سبق مجرد قطرة فى بحر كبير من المواقف الأخوية والمحبة الصادقة التى تجمع بين مصر والسعودية، وهى شجرة زرعها بكل حب الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وسار عليه أولاده ملوك السعودية العظام، ويستكملها حاليًا بكل كفاءة واقتدار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود الرجل الذى يمتلىء تاريخه بالكثير من المواقف الوطنية الساطعة المشرفة .. وهو أيقونة الوطنية والعروبة، فبينما كان الملك فيصل يقدم كل الدعم السياسى والعسكرى والدبلوماسى لمصر، كان الملك سلمان يتولى رئاسة اللجنة الخاصة بدعم المجهود الحربى، وقبلها حضر الملك سلمان إلى مصر وحمل السلاح ومعه إثنين من أخوته الأمراء وشاركا مع الشعب المصرى فى صد العدوان الثلاثى الذى تعرضت له مدن القناة.
اقتراح للسفير السعودى
إنها ملحمة من المحبة تضع “السعودية فى قلب كل مواطن مصرى” مدرك لتاريخ وخصوصية العلاقات بين البلدين، وهى علاقة تحظى باهتمام خاص من ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، ويتولى إدارتها وتمثيلها فى مصر واحد من خير رجال السياسة والدبلوماسية وهو السفير أسامة بن أحمد نقلى سفير خادم الحرمين الشريفين فى مصر ومندوب السعودية الدائم فى الجامعة العربية، وهو – بحق – رجل عاشق لمصر وتاريخها، ونجح باقتدار فى أن يبنى جسورًا من المودة مع مختلف مكونات الشعب المصرى، وهذا نابع من ثقافته الموسوعية كدبلوماسى يمثل أهم دولة فى المنطقة العربية، ولعل هذا يدفعنى لأن أقترح على السيد السفير اسامة بن نقلى أن يتم عرض فيلم “ولُد ملكا” فى دور العرض السينمائى بمصر أو حتى فى عرض خاص، لأنه واحد من أهم الأعمال الفنية التاريخية التى ظهرت خلال الفترة الأخيرة ويتحدث عن قصة حياة الملك فيصل بن عبد العزيز.. فما أحوج الأجيال الحالية لأن تقرأ وتشاهد وتعرف عن هذا الجيل العظيم من القادة العرب.